السباب من دائرة الشؤون العامة والمرجع المرجعية

آراء حرة
2019-03-04

الأدلة الواردة حول (السبّ والشتم) على طوائف بل على طبقات ومراتب: الطائفة الأولى: ما يدل على حرمة سبّ الآخرين، كأصل أولي عام، ويتضمن هذا بعض الآيات والروايات الشريفة والقواعد أو الأصول العملية العامة.

 محاضرة لسماحة آية الله السيد مرتضى الشيرازي

 

إن الأدلة الواردة حول (السبّ والشتم) على طوائف بل على طبقات ومراتب:

الطائفة الأولى: ما يدل على حرمة سبّ الآخرين، كأصل أولي عام، ويتضمن هذا بعض الآيات والروايات الشريفة والقواعد أو الأصول العملية العامة.

الطائفة الثانية: ما يدل على جواز(2) سبّ جماعات خاصة من الناس نظير أهل البدع أو المخالفين.

الطائفة الثالثة: ما يدل على حرمة سبّ تلك الجماعات الخاصة في بعض الصور، ببعض القيود، والآية الكريمة (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ‏) تقع ضمن هذه الطائفة، وإنما قدمناها بالبحث لحكمةٍ سوف يأتي ذكرها بإذن الله تعالى، وهذه الطائفة اما هي مخصصة للطائفة الثانية أو هي حاكمة عليها، أو هي بالأساس خارجة عن باب التعارض وداخلة في باب التزاحم الذي يقع ضمن الطائفة الرابعة.

 

الطائفة الرابعة: ما يدرج الأمر في باب التزاحم)(3):

 

الاعتراض بوجود روايات كثيرة تتضمن السباب والشتائم!

ولكن قد يناقش ذلك بمناقشة معروفة وهي: انه قد ورد السبّ في الروايات الشريفة وفي تراثنا وقد صدر من الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم ومن الائمة الأطهار عليهم السلام، فكيف يقال بحرمة سبّ الآخرين: رؤساء كانوا أم رموزاً أو شبه ذلك؟

والروايات الناقلة لبعض السباب الصادر من الرسول صلى الله عليه واله وسلم أو الآل الأطهار عليهم السلام بعضها صحيحة السند، وبعضها معتبرة بشكل عام، فلئن نوقش في إسناد بعضها فلا مجال للمناقشة في إسنادها جميعاً أو في صدور بعضها إجمالاً.

 

كما ان بعض الروايات مما أتفق علماء الشيعة والسنة على نقله.. فماذا نصنع إذاً؟)(4) كما سبق:

 

غالب الروايات نقل أفعال، والفعل لا إطلاق له ولا جهة

ولا بد من تحليل هذه الروايات ودراستها لنجد انها هل تقع في مواجهة الروايات الناهية عن السباب أو لا، فنقول:

ان العمل أولاً لا جهة له، فلا يمكننا الاستدلال به إلا إذا أحرزنا جهته وانه صادر لكونه حكماً أولياً؟ أو حكماً ثانوياً؟ أو حكماً ولائياً؟ أو انه كان من الأهم في باب التزاحم (بعد الإحاطة بكل الظروف الموضوعية والذاتية) وهل ان القضية كانت من قبيل القضية الحقيقية أو الخارجية؟ وهل كان الإمام عليه السلام في مقام الفتوى أو مقام التعليم((5)) إلى غير ذلك.

وثانياً: ان الفعل (فعل المعصوم عليه السلام) لا إطلاق له فانه ليس لفظاً ليكون له عموم أو إطلاق بل هو دليل لُبّي، بل السيرة لو ثبتت فهي دليل لبّي لا إطلاق له، فكيف نعمم الفعل إلى أشخاصنا وأزمنتنا إلا بنحو تنقيح المناط وهو ظني بل هو من أردأ أنواع القياس.

وتوضيح ذلك: ان كل الموارد الماضية والعشرات غيرها إنما هي مثلاً سباب صادرة من المعصوم بالنسبة إلى شخص معين أو جهة معينة في زمن معين وظروف اجتماعية – سياسية – حقوقية خاصة، فمن أين تحرز اتحاد ظروفك مع ظروفه عليه السلام وموقعك مع موقعه عليه السلام؟ نعم لو ورد لفظ وأمر من المعصوم عليه السلام مثل (سبّوا الناس) – كما ورد بالفعل بالنسبة إلى أهل البدع وسنبحثه مستقلاً – فهذا هو الذي يجب ان نلاحظ نسبته مع الروايات الناهية عن سبّ الناس وطريقة معالجتها أو الجمع بينها، اما الأفعال فلا إطلاق لها ولا جهة)(6).

 

من وجوه (السباب) في التراث الإسلامي

وبعض الكلام عن تلك الأفعال وان الفقيه لا يمكنه الاستناد إليها إلا بعد إحراز جهتها وإطلاقها: ان المحتملات فيما ورد من سبهم كثيرة قد تبلغ العشرة ونقتصر على بعضها في هذا البحث ونكمل الباقي في البحوث الآتية بإذن الله تعالى.

 

الوجه الأول: ان يكون ذلك من الاستثناء الخاص لا من الأصل العام.

 

الوجه الثاني: ان يكون ذلك نظراً لباب التزاحم لا لاقتضاء القضية من حيث ذاتها، وباب التزاحم هو الذي تندرج فيه الطائفة الرابعة من الروايات، كما ان الاستثناء هو الطائفة الثانية.

 

الأصل العام: (قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)

وتوضيح ذلك: ان الأصل العام هو قوله تعالى (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)(7) - وهذه الآية مندرجة في الطائفة الأولى من الروايات وسيأتي الكلام عنها مفصلاً والقصد ههنا الإشارة فقط، وقد دلت الروايات أيضاً على هذا الأصل العام:

ومنها: ((عَنِ الْغَضَائِرِيِّ عَنِ الصَّدُوقِ عَنِ الْمُكَتِّبِ عَنِ ابْنِ زَكَرِيَّا عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ عَنِ ابْنِ بُهْلُولٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عُثْمَانَ الْأَحْوَلِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عليه السلام وَعِنْدَهُ نَفَرٌ مِنَ الشِّيعَةِ وَهُوَ يَقُولُ: مَعَاشِرَ الشِّيعَةِ كُونُوا لَنَا زَيْناً وَلَا تَكُونُوا عَلَيْنَا شَيْناً، (قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) وَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ وَكُفُّوهَا عَنِ الْفُضُولِ وَقُبْحِ الْقَوْلِ))(8).

والخطاب موجه لعامة الشيعة والأمر صريح بـ((كُونُوا لَنَا زَيْناً)) وقد نهى الإمام عليه السلام فيها صراحة بـ((وَلَا تَكُونُوا عَلَيْنَا شَيْناً)) ومن الواضح ان الزين بالرفق واللين، وان الشين بالسباب والشتائم؛ أترى انك لو سببت عشيرةً أو شعباً أو رئيساً انهم يرون ذلك زيناً للشيعة؟ ثم ضمّن الإمام عليه السلام الآية الشريفة في كلامه مؤكداً بذلك كونها الأصل العام (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) ثم أكد ذلك بعبارة أخرى ((وَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ)) و((وَكُفُّوهَا عَنِ الْفُضُولِ وَقُبْحِ الْقَوْلِ)) ومن الواضح ان السباب، بالحمل الشائع الصناعي وبالدقة العقلية ولدى العرف هو من قبح القول.

ثم ان هذه الرواية تقع ضمن دائرة الطائفة الأولى.

إذا سمعوا أعدائنا ثلبونا بأسمائنا

ومنها: ((ثُمَّ قَالَ الرِّضَا عليه السلام: يَا ابْنَ أَبِي مَحْمُودٍ إِنَّ مُخَالِفِينَا وَضَعُوا أَخْبَاراً فِي فَضَائِلِنَا وَجَعَلُوهَا عَلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا الْغُلُوُّ، وَثَانِيهَا التَّقْصِيرُ فِي أَمْرِنَا، وَثَالِثُهَا التَّصْرِيحُ بِمَثَالِبِ أَعْدَائِنَا: فَإِذَا سَمِعَ النَّاسُ الْغُلُوَّ فِينَا كَفَّرُوا شِيعَتَنَا وَنَسَبُوهُمْ إِلَى الْقَوْلِ بِرُبُوبِيَّتِنَا، وَإِذَا سَمِعُوا التَّقْصِيرَ اعْتَقَدُوهُ فِينَا، وَإِذَا سَمِعُوا مَثَالِبَ أَعْدَائِنَا بِأَسْمَائِهِمْ ثَلَبُونَا بِأَسْمَائِنَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ).

يَا ابْنَ أَبِي مَحْمُودٍ إِذَا أَخَذَ النَّاسُ يَمِيناً وَشِمَالًا فَالْزَمْ طَرِيقَتَنَا فَإِنَّهُ مَنْ لَزِمَنَا لَزِمْنَاهُ، وَ مَنْ فَارَقَنَا فَارَقْنَاهُ، إِنَّ أَدْنَى مَا يُخْرِجُ الرَّجُلَ مِنَ الْإِيمَانِ أَنْ يَقُولَ لِلْحَصَاةِ: هَذِهِ نَوَاةٌ، ثُمَّ يَدِينُ بِذَلِكَ وَيَبْرَأُ مِمَّنْ خَالَفَهُ، يَا ابْنَ أَبِي مَحْمُودٍ احْفَظْ مَا حَدَّثْتُكَ بِهِ فَقَدْ جَمَعْتُ لَكَ فِيهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ))(9).

أقول: وهذه الرواية تقع ضمن دائرة الطائفة الثالثة، وكلام الإمام عليه السلام صريح بقوله: ((وَإِذَا سَمِعُوا مَثَالِبَ أَعْدَائِنَا بِأَسْمَائِهِمْ ثَلَبُونَا بِأَسْمَائِنَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ).

والحاصل: ان تلك كانت خطة من المخالفين إذ وضعوا روايات (على لسان الأئمة عليهم السلام أو أصحابهم) تتضمن التصريح بمثالب أعداء أهل البيت عليهم السلام وذلك كي يثيروا القوة الغضبية لدى عامة الناس كي يسبوا الأئمة الأطهار ويثلبونهم بأسمائهم، انتقاماً.. وذلك هو ما يدينه الإمام بشدة: ان تتسبّب إلى تهييج الأعداء ليسبوا أهل البيت عليهم السلام ولا فرق في ذلك بين ان يكون المتسبب للسبّ مخالفاً كما هو مورد الرواية أو شيعياً فان التسبيب إلى سب الأعداء للأئمة عليهم السلام حرام (ثم ان هذه الرواية من الطائفة الثالثة).

لا يقال: ان كلام الإمام عليه السلام عن الأخبار التي وضعها المخالفون المتضمنة لمجعولات منهم وضعوها في سباب أعداء أهل البيت (أي سباب قادتهم وطواغيتهم) كي يسبّ العامةُ أهلَ البيت عليهم السلام.

إذ يقال: المورد لا يخصص الوارد، والعلة معممة مخصصة؛ لبداهة ان الإمام إنما أدان وضعهم المثالب لأعداء أهل البيت لأنهم تسببوا بذلك في استجلاب السبّ على الأئمة، أفهل ترى ان الشيعي يجوز له ان يستجلب السبّ على الأئمة صلوات الله عليهم اجمعين مادام ينقل رواية صحيحة من طرقنا لا من طرقهم؟ ولئن شككت في العموم فلاحظ استدلال الإمام عليه السلام بـ((وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) )) فانه صريح في التعميم إذ المسلمون الذين كانوا يسبون آلهة قريش كانوا يسبونها بحق لا بباطل، وكان نهي الله عنها لا لأنها سباب جعلها الأعداء (أي عبدة الأصنام مثلاً) ولا لأنها سباب باطلة في حد ذاتها (حتى إذا كانت حقاً جازت) كلا بل المحذور هو استجلاب سبّ المسلمين لآلهة الكفار، سب الله عَدْواً بغير علم.

فظهر بذلك انه لا فرق بين وضع السبّ وبين نقل السب الصحيح، إذا استلزم سب العدو لله أو ثلبه للأئمة الأطهار عليهم السلام.

إذا اتضح ذلك يتضح ان الموارد التي نقل فيها السب من الرسول صلى الله عليه واله وسلم أو الإمام عليه السلام كان من الاستثناء ولم يكن من الأصل (وهو الطائفة الأولى) ولا من الاستثناء من الاستثناء (وهو الطائفة الثالثة) بل كان من الخاص المحض (وهو الطائفة الثانية) أي السب الذي تحقق مقتضيه التام والمأمون من ترتب المضاعفات السلبية عليه أي السب الذي أحرز النبي صلى الله عليه واله وسلم أو الإمام عليه السلام انه لا يستجلب سبّهم لله أو للرسول أو الأئمة عليهم السلام - فهذا إذاً ضابط من الضوابط، ولَئِن تُوُهِّم في النادر من الموارد غير ذلك(10) فسيأتي الجواب عنه بإذن الله تعالى فانتظر.

 

أمثلة لخفاء جهة عمل المعصوم عليه السلام أو لعدم انطباقها علينا:

ولنمثل لخفاء جهة العمل (عمل المعصوم) وانه لا يجوز التأسي بأعماله عليه السلام إلا بعد إحراز جهة عمله والعلم بانطباقها علينا، ببعض الأمثلة:

 

وضع الزكاة على الخيل والجياد

المثال الأول: ان أمير المؤمنين عليه السلام وضع الزكاة على الأحصنة: الجياد منها دينارين والبراذين ديناراً، فعن محمد بن مسلم وزرارة عنهما جميعاً قالا: ((وَضَعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام عَلَى الْخَيْلِ الْعِتَاقِ الرَّاعِيَةِ فِي كُلِّ فَرَسٍ فِي كُلِّ عَامٍ دِينَارَيْنِ وجَعَلَ عَلَى الْبَرَاذِينِ دِينَاراً))(11) فهل يجوز لنا ان نضع الزكاة على الجياد؟ الجواب: كلا، فانه يجب العمل بالعمومات الدالة على حصر الزكاة في الغلات الأربع والأنعام الثلاث والنقدين، ولا يجوز لنا ان نضع الزكاة على الجياد ونوجبها على الناس، مستدلين بانه قد فعل ذلك، كما يستدل من يقول بجواز السب أو وجوبه بفعله عليه السلام؛ وذلك لأنه وإن أوجب الزكاة في الجياد والبراذين على الناس، إلا ان وجه عمله غير معلوم فهل لأنه من الحكم الأولي العام؟ أومن الحكم الثانوي الخاص؟ بعبارة أخرى: هل كان من باب ولاية الإمام عليه السلام وهي خاصة به؟ أو من باب كونه حاكماً مبسوط اليد فلا تشمل إلا مَن كان حاكماً مبسوط اليد؟ أو من باب الاضطرار لعنوان ثانوي أهم عارض؟ أو لغير ذلك؟

 

إفطار الإمام في شهر رمضان

المثال الثاني: ان الإمام عليه السلام لو فرض (لاحظ لو فرض) انه صلى متكتفاً فهل يجوز لنا ان نصلي متى شئنا متكتفين؟

والمثال الواقعي: هو انه عليه السلام أفطر في شهر رمضان، في قصته المعروفة مع المنصور. ((عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ بِالْحِيرَةِ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي الصِّيَامِ الْيَوْمَ، فَقُلْتُ: ذَاكَ إِلَى الْإِمَامِ إِنْ صُمْتَ صُمْنَا وَإِنْ أَفْطَرْتَ أَفْطَرْنَا، فَقَالَ يَا غُلَامُ: عَلَيَّ بِالْمَائِدَةِ فَأَكَلْتُ مَعَهُ وَأَنَا أَعْلَمُ وَاللَّهِ أَنَّهُ يَوْمٌ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَكَانَ إِفْطَارِي يَوْماً وَقَضَاؤُهُ أَيْسَرَ عَلَيَّ مِنْ أَنْ يُضْرَبَ عُنُقِي وَلَا يُعْبَدَ اللَّهُ))(12).

والشاهد اننا أ- لو لم نعلم جهة عمل الإمام (وانه كان تقية) فانه لا يجوز لنا التأسي به أصلاً ب- بل إنما يجوز لو علمنا الجهة (ككونه ههنا تقية) وعلمنا انطباقها علينا أيضاً ككوننا في حالة تقية، وهذه الرواية من القسم الثاني.

 

إباحة الإمام الخمس لشيعته

المثال الثالث: لو فَرَضَ الإمامُ الخمسَ في احدى السنين مرتين مثلاً، أو حدث العكس بان أباح لبعض شيعته أو كلهم بعض الخمس أو كله لمرة أو طوال مدة إمامته(13)، فهل يجوز لنا ان نفرض الخمس مرتين؟ أو ان نبيح للشيعة التصرف في كل الخمس في سنةٍ ما أو طوال العمر؟ الجواب كلا، يحرم ذلك ولا يجوز إلا بعد معرفة الفقيه – لا كل عامي – لجهة حكم الإمام ومعرفته انطباقها عليه أو على هذا المكلف أو ذاك.

وسنكمل البحث عن ذلك وعن سائر الجهات في الدرس القادم بإذن الله تعالى.

 

الاعتراض برواية (أَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ)

ولكن قد يعترض على ما ذكرناه بروايات الطائفة الثانية:

ومنها: ما ورد في الكافي الشريف ((عَنْ دَاوُدَ بْنِ سِرْحَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم: إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ مِنْ بَعْدِي فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ وَالْقَوْلَ فِيهِمْ وَالْوَقِيعَةَ وَبَاهِتُوهُمْ كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ، يَكْتُبِ اللَّهُ لَكُمْ بِذَلِكَ الْحَسَنَاتِ وَيَرْفَعْ لَكُمْ بِهِ الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ))(14).

فيقال: بان هذا أمر وليس فعلاً كي يشكك في جهته وفيه التصريح بـ((وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ))(15).

وهذه الرواية لا مشكلة فيها من حيث السند وقد افتى بعض من الأعاظم على طبقها كما نقلنا سابقاً بعض أقوالهم قدس اسرارهم.

 

الجواب: الخطاب عام والحكم خاص

ولكن: قد يجاب عن الاستدلال بالرواية الشريفة بوجوه: جامعها ان هنالك ضوابط عديدة وان الخطاب عام ولكن الحكم خاص، وتوضيحه:

ان الخطاب وإن كان موجهاً للعموم ظاهراً ولكن الحكم خاص أ- بمن يعرف موارده ومصادره ب- وبكونه مجرداً عن المحذورات التي ذكرتها الطائفة الثالثة من الروايات وعن المزاحم الأهم الذي تتضمنه الطائفة الرابعة من الروايات.

وحيث ان كل أحد قد يتصور نفسه كذلك، فان كل شخص يُحسِن، عادةً، الظن بنفسه ويرى انه كفوء عارف بأطراف القضية، لذلك أحال الشارع تشخيص ذلك إلى مراجع التقليد جامعي الشرائط. فهذان هما قيدان إذاً:

1- بان يعرف مصادره وموارده

اما القيد الأول (ان يعرف مصادره وموارده): فعقلي وعقلائي، وهو عام لكل أمر أو نهي ألقي بذمة المكلف؛ ألا ترى انه إذا قال له (قلّد الأعلم) وجب عليه إذا أراد ان يقلد زيداً أو عمراً أو بكراً، ان يكون عارفاً بالأعلم أي قادراً على تشخيصه بملاكاته؟ فإن لم يكن قادراً وجب عليه ان يتبع الطرق الشرعية الأخرى: كالشياع والبيّنة غير المعارضة إلى غير ذلك، فلا يصح للعامي ان يقول ان الله أمرنا بتقليد الأعلم ولم يقيد بان أكون قادراً على تشخيصه! أو ان يقول: ان نفس إطلاق هذا الأمر دليل على ان الأمر موكل لي مهما بلغت درجة علمي أو جهلي!

 

واما القيد الثاني: فللأدلة الدالة عليه كما سيأتي بعد قليل بإذن الله تعالى.

 

أمثلة للخطاب العام والحكم الخاص

ولنمهد له بان نقول: ان العديد من الخطابات القرآنية والروائية وإن كانت موجهة لعامة المكلفين ولكن لا يجوز إلا لفئة خاصة العمل بها (بالمباشرة أو بإيكال ذلك لمن يرونه الأصلح للقيام به) ويحرم على غيرهم القيام بها ولنمثل ببعض الأمثلة:

أ- قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزيزٌ حَكيمٌ)(16) والخطاب ههنا عام بلا شك (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) لكن الحكم خاص؛ إذ لا يجوز لكل أحد ان يقطع يد أي سارق، بل ان إجراء الحدود منوط بالحاكم الشرعي؛ وإلا للزم الهرج والمرج وتعدي كل أحد على كل أحد بتهمة انه سرق أو زنا أو شرب الخمر أو لاط أو غير ذلك، بل اللازم معرفة القائم بالحد، بشرائط إقامته(17) أولاً وبانطباقها على من تُقام عليه ثانياً إضافة إلى ان يكون القائم به من يأذن له الحاكم الشرعي ثالثاً.

 

ب- قوله تعالى: (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُون‏)(18)

و(يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقين‏)(19). و(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمين‏)(20)

 

2- ان يكون بإذن الحاكم الشرعي

فهل يا ترى يصح لأحد ان يقول بان الأمر القرآني صريح وهو خطاب موجّه للجميع ولم يخصِّصه الله تعالى بالحاكم الشرعي أو أولياء الأمور أو ما أشبه، إذاً لكل واحد من العوام – بل على كل أحد – ان يبادر لمقاتلة أئمة الكفر أو مقاتلة الذين يلوننا من الكفار أو شبه ذلك.

والحاصل: ان القرينة العقلية أو العقلائية أو الشرعية الحافّة بالكلام، لهي من احدى مقيداته بدون كلام.

ولكن قد يسأل عن الدليل على ان مثل (فَقاتِلُوا) و(فَاقْطَعُوا) و((فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ وَالْقَوْلَ فِيهِمْ وَالْوَقِيعَةَ وَبَاهِتُوهُمْ)) حكم خاص وإن كان خطابه عاماً؟.

والجواب على ذلك واضح وهو ان الدليل هو الروايات الكثيرة المصرحة بمثل ان مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء.. وهي روايات كثيرة نقتصر الآن على واحدة منها:

الدليل: ((مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى أَيْدِي الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ))

قال الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام: ((ذَلِكَ بِأَنَّ مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى أَيْدِي الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ الْإِمْنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ))(21).

 

ومن الواضح ان سِباب أهل الريب والبدع على قسمين:

فتارة يسب أحدَهم في غرفة مغلقة مثلاً، فذلك مما قد يقال انه ليس من الشؤون العامة وليس من (الأمور والأحكام) وانه قد أوكل الموضوع إلى المكلف نفسه، وإن كان عليه ان يأخذ الحكم من المرجع.

وتارة يسبّ أهل الريب والبدع على مستوى الجرائد والمجلات والفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، مما يصل للقريب والبعيد والصديق والعدو والمحب والمبغض، ومما تنعكس آثاره بالتبع على الشيعة بشكل عام فهذا القسم لا شك في انه من الأمور التي مجاريها بأيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه.

بعبارة أخرى: لا ريب ان سبّ رؤساء الكفار أو رموز الأديان أو المذاهب الأخرى، مما تنطبق عليه الرواية الشريفة ((مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى أَيْدِي الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ الْإِمْنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ)) وإلا إذا لم تكن منها فما هي الأمور التي بأيدي العلماء؟ وكيف لا تكون كذلك وهي مما تنعكس تأثيراتها(22) على الشيعة عامة أو على شرائح واسعة منهم؟

بعبارة أخرى: ان الضابط العام في مثل (وَأَمْرُهُمْ شُورى‏ بَيْنَهُمْ)(23) ومثل ((مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ)) هو ان أي أمر صدق عليه انه (امرهم) فهو شورى بينهم فلا يحق لأحد ان يستفرد باتخاذ القرار فيه (وسيأتي الكلام عن آية الشورى مستقلاً) وكذلك كل أمر صدق عليه (الأمور) وهو جمع محلى باللام فيشمل كل شيء، ولا شك ان سب رموز الآخرين أمر من الأمور فيجب الرجوع فيه إلى العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه.

بعبارة أخرى أدق: (الأمور) عام يشمل كل موضوع، حتى الشخصي (كالسبّ في غرفة مغلقة مثلاً) فإذا دلّ الدليل على خروج الأمر الشخصي عن العموم، فلا شك في بقاء الأمر النوعي في دائرة العموم وإلا للزم لغوية القول بان مجاري الأمور بأيدي العلماء.

ولئن أبيتَ عن شمول الأمور لمثل سباب رموز الآخرين على رؤوس الاشهاد مما يتموج بالسلب أو الإيجاب (على مدعى الطرف الآخر) على الشيعة أو على قطاعات واسعة منهم (رغم بداهة انه من الأمور بل من أظهرها) فلا مجال لإنكار انه من (الأحكام) وقد قال الإمام عليه السلام: ((مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى أَيْدِي الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ الْإِمْنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ)) فالحكم يؤخذ منهم (حكم سباب العامة على رؤوس الاشهاد) ولا بأس بالإشارة إلى ان قوله عليه السلام: ((الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ)) المراد به العلماء به جل اسمه وأحكامه وقوانينه التشريعية، ولا يكون الشخص عالماً بها إلا إذا علم أصولها وفروعها وشرائطها وموانعها ومزاحماتها والمخصصات لها أو الحواكم عليها وغير ذلك.

 

من الشواهد: الأمر بالجدل والمناظرة خطاب عام وحكم خاص

ومما يوضح ذلك أكثر: الجدال والهداية والإرشاد والمناظرة، فانه لا شك في عموم خطاباتها لعامة المكلفين ولكن مع ذلك نجد انها مقيدة بالشرطين أعلاه، فلاحظ مثلاً قوله تعالى: (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتي‏ هِيَ أَحْسَنُ)(24) والخطاب – بظاهره – للكل و(ادْعُ إِلى‏ سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتي‏ هِيَ أَحْسَنُ)(25) والخطاب أيضاً للكل وإن كان طرف الخطاب شخصه الكريم صلى الله عليه واله وسلم وكذلك الروايات الشريفة:

فلاحظ الرواية التالية: ((عن أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ يَقْطِينٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصَّادِقِ عليه السلام قَالَ: قَالَ لِي: خَاصِمُوهُمْ وَبَيِّنُوا لَهُمُ الْهُدَى الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَبَيِّنُوا لَهُمْ ضَلَالَتَهُمْ وَبَاهِلُوهُمْ فِي عَلِيٍّ عليه السلام ))‏(26) وأنت ترى انه، إضافة للآيات، فالرواية صريحة في ان الخطاب للجميع ((خَاصِمُوهُمْ)) ولم يقل (خاصمهم) و((وَبَيِّنُوا لَهُمُ الْهُدَى الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ)) مع وضوح ان الكل واجب عليه ذلك وجوباً كفائياً.

ولكن مع ذلك نجد ان الإمام عليه السلام لم يترك أمر المناظرة والحوار لعامة الشيعة بل صرح بان الحكم خاص بالبعض وأجاز للبعض المناظرة ومنع البعض من المناظرة، بل نجد انه عليه السلام في بعض الفترات منع عامة الشيعة من المناظرة إلا من استثناه هو خاصة.

 

منع الإمام الكثيرين من الكلام وأمره البعضَ به والروايات في هذا الحقل كثيرة:

ومنها: انه ((روي عنه عليه السلام أنه نهى رجلا عن الكلام وأمر آخر به، فقال له بعض أصحابه: جعلت فداك، نهيت فلاناً عن الكلام وأمرت هذا به؟ فقال: هذا أبصر بالحجج، وأرفق منه))(27) فالإمام يمنع شخصاً لا لأنه غير بصير بالحجج بل لمجرد(28) ان غيره أبصر بالحجج! هذا أولاً ولأن غيره أرفق في الاحتجاج فهذا ثانياً، ومن الواضح ان كل إنسان يحسن الظن بنفسه عادةً ويرى انه الأبصر بالحجج والأعرف، ولكن تشخيصه ليس بحجة بل تشخيص ولاة الأمر هو الحجة، بل لو شخّص انه بصير بالحجة لما صح له ان يتصدى إلا بعد الرجوع لولاة الأمر.

وهنا نؤكد مرة أخرى: ان القدر المسلّم من ذلك ما كان للمناظرة انعكاسات على الوضع الشيعي العام بحيث عدّ من (الأمور) أو (الشؤون العامة) واما ما كان خاصاً بالمتناظرين فقط فقد يقال بعدم شمول الروايات لمثله؛ للانصراف أو غيره، فتأمل.

ومنها: ((عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: إِنَّ النَّاسَ يَعِيبُونَ عَلَيَّ بِالْكَلَامِ، وَأَنَا أُكَلِّمُ النَّاسَ؟ فَقَالَ: أَمَّا مِثْلُكَ مَنْ يَقَعُ ثُمَّ يَطِيرُ، فَنَعَمْ، وَأَمَّا مَنْ يَقَعُ ثُمَّ لَا يَطِيرُ فَلَا))(29).

((وروي عَنِ الطَّيَّارِ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: بَلَغَنِي أَنَّكَ كَرِهْتَ مُنَاظَرَةَ النَّاسِ؟ فَقَالَ: أَمَّا كَلَامُ مِثْلِكَ فَلَا يُكْرَهُ مَنْ إِذَا طَارَ يُحْسِنُ أَنْ يَقَعَ، وَإِنْ وَقَعَ يُحْسِنُ أَنْ يَطِيرَ، فَمَنْ كَانَ هَكَذَا لَا نَكْرَهُهُ))(30)

فرغم ان الأمر بالجدال في الآية عامة وفي تلك الرواية ((خَاصِمُوهُمْ وَبَيِّنُوا لَهُمُ الْهُدَى الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَبَيِّنُوا لَهُمْ ضَلَالَتَهُمْ وَبَاهِلُوهُمْ فِي عَلِيٍّ عليه السلام )) إلا ان الإمام عليه السلام يضع ضوابط ثم انه هو الذي يشخّص المصداق ويمنع شخصاً ويجيز لآخر.

ومنها: ((عن أبي خالد الكابلي، قال: رأيت أبا جعفر صاحب الطاق وهو قاعد في الروضة قد قطع أهل المدينة أزراره، وهو دائب يجيبهم ويسألونه، فدنوت منه فقلت: إن أبا عبد الله عليه السلام ينهانا عن الكلام.

 

فقال: أمرك أن تقول لي؟

فقلت: لا والله، ولكن أمرني أن لا أكلم أحداً، قال: فاذهب فأطعه فيما أمرك.

فدخلت على أبي عبد الله عليه السلام فأخبرته بقصة صاحب الطاق، وما قلت له، وقوله لي: اذهب وأطعه فيما أمرك، فتبسم أبو عبد الله عليه السلام وقال: يا أبا خالد إن صاحب الطاق يكلم الناس فيطير وينقض، وأنت إن قصوك لن تطير))(31)

 

الاستدلال بحكومة ((مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ...)) لا بالقياس

وليس الاستدلال بتنظير السباب بالمناظرة كي يقال انه نوع من القياس، بل كان الاستدلال بحكومة عمومات ((مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى أَيْدِي الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ الْإِمْنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ)) وغيرها وكـ((وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اللَّه))(32) مما فصّلناه في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) وسائر الروايات الدالة على وجوب الرجوع إلى العلماء في ((الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ)) و(الأمور) و(الأحكام) وأي أمر أهم من سلسلة قضايا منها سباب رؤساء الدول الأخرى أو رموز الأديان الأخرى، على مستوى عالمي، مما أثار على مرّ التاريخ التوترات والأزمات بل والحروب (بالفعل أو لاحقاً) بين الدول والأمم والطوائف والفرق. قال الشاعر:

جِراحات السِّنانِ لها التِئامٌ.. وَلا يلتامُ ما جَرَحَ اللسانُ

 

السباب شأن عام ومن الموضوعات العامة

والحاصل: انه حتى في موارد جواز سبّ الطرف الآخر، ومنها سبّه من باب المقابلة بالمثل لقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ)(33) فانه إذا صار شأناً عاماً فالواجب الرجوع إلى العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه، والاستئذان منهم، ثم ان الفقيه لا يأذن عبثاً – كما هو واضح – بل عليه دراسة كافة الظروف والشروط الذاتية والموضوعية والآثار الحالية والمستقبلية، وبعد مشورة مجموعة معتدّ بها من أهل الخبرة، بل وفيما نرى بعد مشورة سائر الفقهاء كما فصلناه في (وَأَمْرُهُمْ شُورى‏ بَيْنَهُمْ) وسنفصّل الكلام عن ذلك وعن بعض شرائط الإفتاء بمثل ذلك، في بحث لاحق بإذن الله تعالى.

 

باب التزاحم وعدم زحزحة الإمام عليه السلام للبدع

كما ان مما يوضح ذلك أكثر: ان الإمام علياً عليه السلام رغم انه صار حاكماً على حدود خمسين دولة بجغرافية اليوم ورغم تصريحه بقيام الثلاثة قبله ببدع قطعية إلا انه لم يغيرها أصلاً.

فلاحظ قوله عليه السلام: ((ثُمَّ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَخَاصَّتِهِ وَشِيعَتِهِ فَقَالَ قَدْ عَمِلَتِ الْوُلَاةُ قَبْلِي أَعْمَالًا خَالَفُوا فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم مُتَعَمِّدِينَ لِخِلَافِهِ نَاقِضِينَ لِعَهْدِهِ مُغَيِّرِينِ لِسُنَّتِهِ وَلَوْ حَمَلْتُ النَّاسَ عَلَى تَرْكِهَا وَحَوَّلْتُهَا إِلَى مَوَاضِعِهَا وَإِلَى مَا كَانَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم لَتَفَرَّقَ عَنِّي جُنْدِي حَتَّى أَبْقَى وَحْدِي أَوْ قَلِيلٌ مِنْ شِيعَتِيَ الَّذِينَ عَرَفُوا فَضْلِي وَفَرْضَ إِمَامَتِي مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم

أَ رَأَيْتُمْ لَوْ أَمَرْتُ بِمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام فَرَدَدْتُهُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم وَرَدَدْتُ فَدَكاً إِلَى وَرَثَةِ فَاطِمَةَ (عليها السلام) وَرَدَدْتُ صَاعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم كَمَا كَانَ وَأَمْضَيْتُ قَطَائِعَ أَقْطَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم لِأَقْوَامٍ لَمْ تُمْضَ لَهُمْ وَلَمْ تُنْفَذْ وَرَدَدْتُ دَارَ جَعْفَرٍ إِلَى وَرَثَتِهِ وَهَدَمْتُهَا مِنَ الْمَسْجِدِ وَرَدَدْتُ قَضَايَا مِنَ الْجَوْرِ قُضِيَ بِهَا وَنَزَعْتُ نِسَاءً تَحْتَ رِجَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فَرَدَدْتُهُنَّ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ وَاسْتَقْبَلْتُ بِهِنَّ الْحُكْمَ فِي الْفُرُوجِ وَالْأَحْكَامِ وَسَبَيْتُ ذَرَارِيَّ بَنِي تَغْلِبَ وَرَدَدْتُ مَا قُسِمَ مِنْ أَرْضِ خَيْبَرَ وَمَحَوْتُ دَوَاوِينَ الْعَطَايَا وَأَعْطَيْتُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم يُعْطِي بِالسَّوِيَّةِ وَلَمْ أَجْعَلْهَا دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَأَلْقَيْتُ الْمَسَاحَةَ وَسَوَّيْتُ بَيْنَ الْمَنَاكِحِ وَأَنْفَذْتُ خُمُسَ الرَّسُولِ كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَفَرَضَهُ وَرَدَدْتُ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَسَدَدْتُ مَا فُتِحَ فِيهِ مِنَ الْأَبْوَابِ وَفَتَحْتُ مَا سُدَّ مِنْهُ وَحَرَّمْتُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَحَدَدْتُ عَلَى النَّبِيذِ وَأَمَرْتُ بِإِحْلَالِ الْمُتْعَتَيْنِ وَأَمَرْتُ بِالتَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَائِزِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ وَأَلْزَمْتُ النَّاسَ الْجَهْرَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَأَخْرَجْتُ مَنْ أُدْخِلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم فِي مَسْجِدِهِ مِمَّنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم أَخْرَجَهُ وَأَدْخَلْتُ مَنْ أُخْرِجَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم مِمَّنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم أَدْخَلَهُ وَحَمَلْتُ النَّاسَ عَلَى حُكْمِ الْقُرْآنِ وَعَلَى الطَّلَاقِ عَلَى السُّنَّةِ وَأَخَذْتُ الصَّدَقَاتِ عَلَى أَصْنَافِهَا وَحُدُودِهَا وَرَدَدْتُ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ وَالصَّلَاةَ إِلَى مَوَاقِيتِهَا وَشَرَائِعِهَا وَمَوَاضِعِهَا وَرَدَدْتُ أَهْلَ نَجْرَانَ إِلَى مَوَاضِعِهِمْ وَرَدَدْتُ سَبَايَا فَارِسَ وَسَائِرِ الْأُمَمِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه واله وسلم إِذاً لَتَفَرَّقُوا عَنِّي...))(34)

مع ان تلك البدع كانت من أعظم البدع، ألا ترى انك لو صرت حاكماً مبسوط اليد وجب عليك إرجاع فدك؟ بل يرى ذلك كل شيعي بديهياً؟ كما وجبت سائر البنود المذكورة في كلامه وكان عليك المبادرة إلى إلغاء تلك البدع والحيلولة دونها؟ ولكن مع ذلك فان الأمر مندرج في باب التزاحم والأهم والمهم، (بين تغيير تلك المذكورات وبين إحقاق مجمل الحق والحيلولة دون الأكثر منها) فكيف يتوهم متوهم ان أمر السباب ليس مندرجاً في باب التزاحم والأهم والمهم وان كل شخص بمقدوره ان يشخّص الأهم والمهم النوعي وتزاحم مصالح أتباع أهل البيت عليهم السلام على امتداد البسيطة؟ وللبحث صلة بإذن الله تعالى.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

.........................................

(1) سورة الأنعام: آية 108.

(2) بالمعنى الأعم الشامل للإباحة وللوجوب.

(3) الدرس (296) بتصرف.

(4) الدرس (297)

(5) فصّلنا الكلام عن المقامين في فقه المعاريض والتورية.

(6) الدرس (297

(7) سورة البقرة: آية 83.

(8) الشيخ الطوسي، الأمالي، دار الثقافة للنشر – قم، 1414هـ، ص440.

(9) الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، دار العالم للنشر (جهان) 1378هـ، ج1 ص303.

(10) انه صدر السب منهم رغم استجلابه سبّ العدو.

(11) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج3 ص530.

(12) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج4 ص82.

(13) فصلنا الكلام عن عدم إباحة الأئمة عليهم السلام للخمس، بشكل مطلق في كتاب (سالتان في الخمس) – وهو تحت الطبع.

(14) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص275.

(15) وسيأتي الحديث مستقلاً عن (فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ) و(بَاهِتُوهُمْ).

(16) سورة المائدة: آية 38.

(17) مثلاً لإقامة حد السرقة 44 شرطاً وقد يندر تحققها في سارق، والعلم بهذه الشروط بحاجة إلى اجتهاد وإحاطة تامة.

(18) سورة التوبة: آية 12.

(19) سورة التوبة: آية 123.

(20) سورة البقرة: آية 193.

(21) الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1404هـ، ص237.

(22) السلبية برأي بعض والإيجابية برأي بعض آخر.

(23) سورة الشورى: آية 38.

(24) سورة العنكبوت: آية 46.

(25) سورة النحل: آية 125.

(26) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء – بيروت، 1404هـ، ج10 ص452.

(27) الشيخ المفيد، تصحيح الاعتقاد، المؤتمر للشيخ المفيد – قم، 1413هـ، ص71.

(28) حسب قاعدة الأصل في أفعل التفضيل فتدبر.

(29) محمد بن عمر الكشي، رجال الكشي، مؤسسة النشر في جامعة مشهد، ص319.

(30) المصدر نفسه: 348.

(31) المصدر نفسه: ص185.

(32) أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، نشر المرتضى – مشهد المقدسة، 1403هـ، ج2 ص469.

(33) سورة البقرة: آية 194.

(34) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج8 ص59-63.

اشترك معنا على التلجرام لاخر التحديثات
https://t.me/relations113
التعليقات